إحساس يكون فيه الفرد نهباً للشعور الداخلي السلبي والفشل وخيبة الأمل، واختفاء الابتسامة والحبور والانشراح، وظهور العبوس وعدم الابتهاج والأسى الممزوج بالآهات والتنهدات بدون مبررات جسمية أو بيئية وفقدان الهمة والتقاعس عن الحركة والعزوف عن بذل أي نشاط حيوي ولربما العزوف عن الحيوية والحياة بكاملها. ولربما يتصاعد الاكتئاب وذلك الإحساس ليصل إلى مراتب اليأس من فرص الحياة الطيبة في المستقبل والنظر للأمور بمنظار قاتم متشائم إذ يصبح عندئذ كل جهدٍ ممقوتاً وكل طاقات الجسم مفقودة مبعثرة وكأنها نضبت حتى عن تحفيز الجسم للقيام بأبسط الحركات والنشاطات كالاستحمام وغسل الفم والأسنان وحتى الابتسام والسلام الضروريين إذ يشعر الفرد معه عندئذ بحاجة لذرف دموع الحزن والأسى بدون سبب ويود لو أنها تنزلق من مآقيه على الرغم من عدم وجودها.
والاكتئاب تراجع في الفكر وضمور ينتهي في الفراغ الحاصل فيه ليشلّ الدماغ والخلايا العصبية فيه عن ممارسة دورها السليم في التحليل والتمييز وإصدار التعليمات لباقي أعضاء الجسم وغدده لإفراز أنزيماتها الوظيفية المعتادة مثل مادة الأمينات الأولية (monoamines) والتي تعمل بمثابة الزيوت التي تيسر التفاعلات المتنوعة والمتعددة الخاصة بالانفعال والفرح والحبور والتي تنقص عادة بالمخ في حالات كثيرة ليصاب الإنسان بالاكتئاب علماً بأن ازديادها يسبب الفعل العكسي وهو الهياج وكثرة الحركة والسعادة المفرطة المؤقتة.
ومن هنا نجد مصاحبة بعض الأمراض الفسيولوجية لهذا المرض النفسي مثل القرحة وسوء الهضم ووجع المفاصل والصداع والأرق... وغيرها الكثير. إن أهمية العلاج النفسي القرآني للاكتئاب يتمثل في كونه البديل المناسب لمئات من أنواع الأدوية والعقاقير المهدئة التي قد يتعود عليها الجسم فتكون مرضاً أدهى وأمر من الاكتئاب ذاته ولربما تتدهور الحالة النفسية ليصل الاكتئاب إلى أعلى درجات الحزن وفراغ الفؤاد والهلع والخوف المشوب بالهستريا ومحادثة النفس بشكل يوحي بالجنون الناتج عن ضغوطاته والحقيقة إننا لا نتكلم هنا عن الاكتئاب السريري أو الناتج عن ضغوطات الحياة اليومية والخوف والإرهاب والمرض والحزن المصاحب لوفاة عزيز... إذ أن هذا النوع من الاكتئاب كثيراً ما يزول بزوال علته وانتفاء سببه ولو بعد حين وعادة ما يكون هذا النوع من الاكتئاب قصير الأمد سهل العلاج. ولكن من الاكتئاب ما لا يعلن عن أسباب واضحة لإثارته ولا طرق متميزة لمعرفة وجوده فالاستيقاظ من النوم متجهماً هو أحد صور هذا الاكتئاب مثلاً. وقد يتخذ هذا الاكتئاب أشكالا مختلفة من اللوم وتأنيب النفس والتشاؤم والملل من الحياة وحتى الانتحار كما قد يحدث بصورة دورية عند الأفراد لمجرد مجابهة مشكلة بسيطة أو معضلة عابرة ومن الجدير بالإشارة هنا هو أنه مهما كانت أنواع وأشكال الاكتئاب فإنها تتميز بعدم وحدانية العلة والأسباب المؤدية للاكتئاب فلكل فرد أسباب اكتئابه الخاصة وبهذا نستطيع القول بأن الاكتئاب مرض فردي العوارض شخصي النزعة على الرغم من إمكانية تجميع الأسباب والعلل ولكنها هي الأخرى متعددة ومتنوعة وغير قابلة للحصر الدقيق فكل فرد يعبر عن اكتئابه بمشاعره وأفكاره أو سلوكه ونظراته الخاصة.
إن دراسة موضوع الاكتئاب وعلاجه يعتبر من المواضيع الهامة في علم النفس الحديث ولكن دون جدوى إذ سرعان ما تنتهي العقاقير وسرعان ما تنتهي الرياضة ويرجع الاكتئاب إلى النفس من جديد ويمكننا الجزم والتأكيد على قصور العلاج النفسي السريري للاكتئاب في الكثير من الحالات لخلوه من التشخيص الدقيق لعله الاكتئاب أو لعدم توفر العلاج الناجع وبالنهاية لا توجد حيلة للمعالجة لأن البيئة والمجتمع وسلوكياتهما لا يسمحان بالكثير من العلاجات المتنوعة الأخرى.
ولا غرو أن نجد الكثير من السلبيات المصاحبة للاكتئاب عند المعالجة أو قبلها مثل الإدراك المشوب بالسلبية والروح الانهزامية من الأحداث الخاصة الداخلية للفرد والخارجية المحيطة به، كما نلاحظ توتر العلاقات الاجتماعية نظراً لذلك وصعوبة التعامل بشكل واضح وسليم مع الآخرين وعدم تحديد معرفتهم لأسباب الاكتئاب وعدم تقدير مواقف الشخص الكئيب من جانب آخر.
أما درجات الاكتئاب فهي متعددة ولربما يمكننا تدريجها وتنسيبها للمقياس المئوي ليكون قياسها مئوياً من صفر إلى مائة بالمائة وتلك الدرجة من الاكتئاب قد تؤدي إلى الانتحار أو الجنون وهو أقسى حالات الاكتئاب.
والحقيقة التي يجدر أن نشير إليها هنا هي أن العلاج القرآني للاكتئاب بكل درجاته ومقاييسه لم يكن سريرياً بل علاجاً تحريضياً إيحائيا للفرد من دون إعلان مسبق عن وجود مثل ذلك الاكتئاب. كما أنه علاج تحريضي سلوكي للفرد يقوم به بصورة ذاتية وثابتة حتى يصل لدرجة التلقائية.
والحقيقة الثانية التي يجب أن نشير إليها هي قساوة وشدة الاكتئاب إذا كان نافراً من كل شيء حوله فعندئذ لن يجد هذا الفرد منقذاً أو ملجأ علاجياً مقنعاً إلا الانتحار وهو ما يحدث غالباً لدى الأفراد الذين لا إيمان لهم بالله واليوم الآخر.
ويصرح في هذا المجال كل من الكاتب الإسلامي الدكتور أنور طاهر رضا والدكتورة أمل المخزومي أستاذا علم النفس في كل من جامعتي قاريونس وأزمير بأن التفاوت بين درجات الاكتئاب لدى المجتمعات تتفاوت بتفاوت واختلاف درجات الإيمان بالله وقدره وقضاءه وليس من قبيل الصدفة أن نجد زيادة عدد المصحات النفسية غير السريرية في مجتمع كأوربا، مثلاً، عنه في المجتمعات الإسلامية. كما يؤكد على أن انحسار الاكتئاب عن النفس البشرية منوط بإيمانها إذ كلما ازداد التقارب والتوجه إلى الله كان الاكتئاب معدوماً أو صفراً وهذا ما يتميز به المجتمع الإسلامي عموماً عن غيره من المجتمعات الأخرى وهي نعمة من نعم الله أضفاها على عباده المؤمنين.
كما يستعرض الله تعالى في كتابه المجيد الاكتئاب ويعبر عنه بأوجهه المتعارفة كالحزن وضيق الصدر إذ قال في سورة النحل الآية 127 (ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) وقال في سورة الأنعام الآية 125 (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً كانما يصعد في السماء... ). ويقول أيضاً في سورة هود الآية 12 (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك... ).
ولاهم يحزنون
الحزن هو أحد مظاهر الكآبة النفسية وانعكاس عضلي لها يرتسم على عضلات الوجه أو العيون ولو بدون بكاء وتشنج ولربما ينعكس على العاطفة أيضاً فيزيدها تأججاً لتفشي وتفضح كوامنها المكبوتة. وكثيراً ما يقترن ضيق النفس بالحزن والكآبة ويترادفا معاً فحيثما وجد الضيق وجدت الكآبة والحزن معاً وبالعكس ولقد عبر الله تعالى في كتابه المجيد وفي مواقع متعددة عن الكآبة والاكتئاب بلغة الحزن وفراغ الفؤاد وضيق النفس والصدر والسأم أو الملل والخوف إذ قال في سورة القصص الآية 10 ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لو لا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين).
إن رفع الاكتئاب والحزن المصاحب له وعلاجه القرآني من الناحية النفسية منوط بالعديد من السلوكيات الفردية الذاتية التي يحرض الله تعالى عباده على أدائها وكل من هذه السلوكيات يؤدي الغرض نفسه ولو اجتمعت في شخص لنأى عنه الاكتئاب أبدا. ومن تلك السلوكيات العلاجية النفسية التي يحرض الله تعالى عليها هي:
1. التقوى: إذ قال في سورة الزمر آية 61 (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون) وقال في سورة الأعراف 7 آية 35 (فمن اتقى واصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
2. الإيمان بالله: إذ قال في سورة الأعراف الآية 48 (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن واصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وقال أيضاً في سورة المائدة الآية 69 (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وقال في سورة آل عمران الآية 139 (ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) وقال أيضاً في سورة الأحقاف الآية 12 (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وقال في سورة الروم الآية 15 (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون).
3. الولاية لله: إذ قال في سورة يونس الآية 62 (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وأتبع في الآية 63 (الذين آمنوا وكانوا يتقون) ويلاحظ هنا الربط بين العناصر الثلاث التقوى والإيمان والولاية لله لتكون علاجاً شافياً للحزن والاكتئاب النفسي وقال في آية أخرى بلغة التبعية لله سورة البقرة الآية 38 (قلنا اهبطوا منها جميعاً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وبديهي أن نجد هذه الآية تجمع بين عناصر العلاج النفسي الثلاثة للاكتئاب ولربما تزيد على ذلك لتوحي وتقول أن عباد الله من البشرية أجمعين الذين اتبعوا هدى الله تعالى وتعليماته لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهنا نجد أن العلاج النفسي يوجه للأفراد حتى من غير المسلمين والذين يعتبرون اخواناً في الخلقة والإنسانية.
4. الاستقامة والعمل الصالح: لقد قرن الله كلاً من الاستقامة والعمل الصالح بالإيمان والتقوى لرفع حالة الاكتئاب المذكورة وذلك عن طريق الاطمئنان النفسي الذي تخلقه كل من السلوكيتين المذكورتين فالاستقامة والعمل الصالح في عصورنا هذه بحاجة إلى جهاد نفسي وقناعة راكزة وإيمان راسخ يزيد من إفرازات الامينيا الأولية في الدماغ بصورة ذاتية معتدلة لينتفي الاكتئاب ويحل الفرح والحبور بديلاً عنه.
تلك هي التوصية القرآنية الدائمة والمتواصلة لعلاج الاكتئاب النفسي غير السريري في هذه الحياة الدنيا كما تشير إليها الآيات الكريمة المذكورة سابقاً.
5. التسبيح، السجود، العبادة: إذ قال في سورة الحجر الآية 97-99 (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين).
ولربما تمثل العمليات الثلاث السابقة علاجاً نفسياً وعملياً سريرياً للاكتئاب الداخلي للفرد بما في ذلك من حركات جسمية منشطة للخلايا الدماغية والمتوجهة إلى الله تعالى.